محمد الجخبير
20-04-2014, 12:10 AM
تأملات في سورة البقرة
يقول الله - عز وجل -: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة: 17].
هذه الآية تصور لنا حقيقة النفاق في صدور أصحابه، فهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فشبهتهم الآية الكريمة بالذي استوقد نارا، فلما رأى منها انتفاعا بأن أضاءت وأبصر بها ما حوله، أُطفئت النار، وتحول النور إلى ظلمة، وآل الإبصار إلى عمى.
وهناك مجموعة من التساؤلات التي تثيرها الآية الكريمة:
1- لماذا عبرت الآية عن ضوء النار بالظرف (حوله) في ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾، ولم تكن مثلا (فلما أضاءت) بدون مفعول، أو (فلما أضاءت له)؟
لأن الظرف (حول) يشير إلى أن النور منفصل عن هؤلاء، لم يمس قلوبهم؛ لذلك سرعان ما ذهب عنهم نور الإيمان الذي لم يرسخ في قلوبهم؛ لأنه عارض، أما الظلمة فراسخة في قلوبهم.
2- لماذا تعدى الفعل (ذهب) بواسطة حرف الجر ولم يتعد بهمزة التعدية؟ أي لماذا كان التركيب ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، ولم يكن (أذهب الله نورهم)؟
الباء هنا تدل على المعية، فقد ذهب الله بالنور؛ لأن هذه المعية خص الله بها عباده المؤمنين دون غيرهم، فحرم هؤلاء المنافقين منها، ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وليس مع المنافقين، وقد تأكد ذلك بقوله - تعالى – ﴿ وَتَرَكَهُمْ ﴾، فلم يصبحوا في معيته الخاصة بالمؤمنين.
3- لماذا عبرت الآية عن ذهاب الضوء بـ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ولم تعبر بذهاب النار لمطابقة ذكرها قبل ذلك ﴿ اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾، ولأنها هي التي أطفئت؟
النار تشتمل على جانبين: جانب الإشراق، وجانب الإحراق، فذهب الله - تعالى - بجانب الإشراق الممثل في النور، وترك لهم جانب الإحراق.
4- لماذا عبرت الآية عن تركهم في الظلمات بذهاب النور ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، ولم تعبر بذهاب الضوء، مع أنه قد ذكر قبل ذلك في (أضاءت)؟
لأن الضوء ينتج عن النور، فالنور أصل للضوء، فالذهاب بالنور هو ذهاب للضوء أيضا، لكن لو عبر بذهاب الضوء لذهبت الزيادة دون الأصل، فقد يتوهم أن النور موجود، وأن ما ذهب إضاءته فقط، كما أن الله - تعالى - وصف نفسه بالنور ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]، والقرآن بالنور ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8]، والدين بالنور ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257]، والصلاة نور، فهؤلاء المنافقون محرومون من كل أنواع النور.
5- لماذا جمع الضمير في قوله - عز وجل -: ﴿ بِنُورِهِمْ ﴾ مع أنه عبر بالضمير العائد على المفرد في قوله - عز وجل: ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾؟
ليرتبط الذهن بالمشبه به، وهم المنافقون، ففي ذلك مراعاة لحال المشبه، وهي حال المنافقين لا لحال المشبه به، وهي حال المستوقد الواحد؛ ليدلل على انطماس نور الإيمان في قلوبهم.
6- لماذا حذف مفعول (﴿ يُبْصِرُونَ ﴾)؟
لقصد عموم نفي كل ما يُبصَر، فنزل الفعل منزلة اللازم، ولا يقدَّر له مفعول كأنه قيل: لا إحساس بصر لهم.
رحم الله ابن كثير وابن القيم وابن عاشور وجميع مفسري القرآن الكريم.
تُنشر بالتعاون مع مجلة (أعاريب)
المصدر: مجلة أعاريب - العدد الرابع - جمادى الآخرة 1435هـ / إبريل 2014م
د. وليد مقبل الديب
يقول الله - عز وجل -: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة: 17].
هذه الآية تصور لنا حقيقة النفاق في صدور أصحابه، فهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فشبهتهم الآية الكريمة بالذي استوقد نارا، فلما رأى منها انتفاعا بأن أضاءت وأبصر بها ما حوله، أُطفئت النار، وتحول النور إلى ظلمة، وآل الإبصار إلى عمى.
وهناك مجموعة من التساؤلات التي تثيرها الآية الكريمة:
1- لماذا عبرت الآية عن ضوء النار بالظرف (حوله) في ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾، ولم تكن مثلا (فلما أضاءت) بدون مفعول، أو (فلما أضاءت له)؟
لأن الظرف (حول) يشير إلى أن النور منفصل عن هؤلاء، لم يمس قلوبهم؛ لذلك سرعان ما ذهب عنهم نور الإيمان الذي لم يرسخ في قلوبهم؛ لأنه عارض، أما الظلمة فراسخة في قلوبهم.
2- لماذا تعدى الفعل (ذهب) بواسطة حرف الجر ولم يتعد بهمزة التعدية؟ أي لماذا كان التركيب ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، ولم يكن (أذهب الله نورهم)؟
الباء هنا تدل على المعية، فقد ذهب الله بالنور؛ لأن هذه المعية خص الله بها عباده المؤمنين دون غيرهم، فحرم هؤلاء المنافقين منها، ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وليس مع المنافقين، وقد تأكد ذلك بقوله - تعالى – ﴿ وَتَرَكَهُمْ ﴾، فلم يصبحوا في معيته الخاصة بالمؤمنين.
3- لماذا عبرت الآية عن ذهاب الضوء بـ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ولم تعبر بذهاب النار لمطابقة ذكرها قبل ذلك ﴿ اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾، ولأنها هي التي أطفئت؟
النار تشتمل على جانبين: جانب الإشراق، وجانب الإحراق، فذهب الله - تعالى - بجانب الإشراق الممثل في النور، وترك لهم جانب الإحراق.
4- لماذا عبرت الآية عن تركهم في الظلمات بذهاب النور ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، ولم تعبر بذهاب الضوء، مع أنه قد ذكر قبل ذلك في (أضاءت)؟
لأن الضوء ينتج عن النور، فالنور أصل للضوء، فالذهاب بالنور هو ذهاب للضوء أيضا، لكن لو عبر بذهاب الضوء لذهبت الزيادة دون الأصل، فقد يتوهم أن النور موجود، وأن ما ذهب إضاءته فقط، كما أن الله - تعالى - وصف نفسه بالنور ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]، والقرآن بالنور ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8]، والدين بالنور ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257]، والصلاة نور، فهؤلاء المنافقون محرومون من كل أنواع النور.
5- لماذا جمع الضمير في قوله - عز وجل -: ﴿ بِنُورِهِمْ ﴾ مع أنه عبر بالضمير العائد على المفرد في قوله - عز وجل: ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾؟
ليرتبط الذهن بالمشبه به، وهم المنافقون، ففي ذلك مراعاة لحال المشبه، وهي حال المنافقين لا لحال المشبه به، وهي حال المستوقد الواحد؛ ليدلل على انطماس نور الإيمان في قلوبهم.
6- لماذا حذف مفعول (﴿ يُبْصِرُونَ ﴾)؟
لقصد عموم نفي كل ما يُبصَر، فنزل الفعل منزلة اللازم، ولا يقدَّر له مفعول كأنه قيل: لا إحساس بصر لهم.
رحم الله ابن كثير وابن القيم وابن عاشور وجميع مفسري القرآن الكريم.
تُنشر بالتعاون مع مجلة (أعاريب)
المصدر: مجلة أعاريب - العدد الرابع - جمادى الآخرة 1435هـ / إبريل 2014م
د. وليد مقبل الديب